كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما قوله سبحانه: {مِنَ النعم} فوصف له معتبر في ثاني الحال بناء على وصفه الأول الذي هو المعيار له ولما بعده من الطعام والصيام فحقهما أن يعطفا على الوصف المفارق لا على الوصف اللازم فضلًا عن العطف على الموصوف كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ومما يرشد إلى أن المراد بالمثل هو القيمة قوله عز وجل: {يَحْكُمُ بِهِ} أي بمثل ما قتل {ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} أي حكمان عدلان من المسلمين لأن التقويم هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون المماثلة في الصورة التي يستوي في معرفتها كل أحد من الناس.
وهذا ظاهر الورود على ظاهر قول محمد.
وقد يقال: إن هذه الجملة مرشدة إلى ما قلنا أيضًا على رأي من يجعل مدار المماثلة بين الصيد والنعم المشاكلة والمضاهاة في بعض الأوصاف والهيآت مع تحقق التباين بينهما في بقية الأحوال فإن ذلك مما لا يهتدي إليه من أساطين أئمة الاجتهاد وصناديد أهل الهداية والرشاد إلا المؤيدون بالقوة القدسية.
ألا يرى أن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ومن أسلفنا ذكره أوجبوا في قتل الحمامة شاة بناء على ما أثبت بينهما من المماثلة في العب والهدير مع أن النسبة بينهما من سائر الحيثيات كما بين الضب والنون بل السمك والسماك فكيف يفوض معرفة هذه الدقائق العويصة إلى رأي عدلين من آحاد الناس على أن الحكم بهذا المعنى إنما يتعلق بالأنواع لا بالأشخاص فبعد ما عين بمقابلة كل نوع من أنواع الصيد نوع من أنواع النعم يتم الحكم ولا يبقى عند وقوع خصوصيات الحوادث حاجة إلى حكم أصلًا.
وقرأ محمد بن جعفر {ذُو عَدْلٍ} وخرجها ابن جني على إرادة الإمام، وقيل: إن {ذو} تستعمل استعمال من للتقليل والتكثير، وليس المراد بها هنا الوحدة بل التعدد ويراد منه إثنان لأنه أقل مراتبه، وفي «الهداية» «قالوا: والعدل الواحد يكفي والمثنى أولى لأنه أحوط وأبعد من الغلط»، وعلى هذا لا حاجة إلى حمل {ذو} على المتعدد ولا على الإمام بل المراد منها الواحد إمامًا كان أو غيره، ومن اشترط الإثنين حمل العدد في الآية على القراءة المتواترة على الأولوية، والجملة صفة لجزاء أو حال من الضمير المستتر في خبره المقدر، وقيل: حال منه لتخصيصه بالصفة، وجوز ابن الهمام على قراءة رفع {جزاء} وإضافته أن تكون صفة لمثل كما أن تكون صفة لجزاء لأن مثلًا لا تتعرف بالإضافة فجاز وصفها ووصف ما أضيف إليها بالجملة.
وقوله تعالى: {هَدْيًا} حال مقدرة من الضمير في {بِهِ} كما قال الفارسي أو من {جزاء} بناء على أنه خبر أو منه على تقدير كونه مبتدأ في رأي أو بدل من {مَثَلُ} فيمن نصبه أو من محله فيمن جره أو نصب على المصدر أي يهديه هديًا والجملة صفة أخرى لجزاء {بالغ الكعبة} صفة لهديًا لأن إضافته لفظية {أَوْ كَفَّارَةٌ} عطف على محل {مِنَ النعم} على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة صفة لجزاء على ما اختاره شيخ الإسلام.
وقوله تعالى: {طَعَامُ مساكين} عطف بيان لكفارة عند من يراه كالفارسي في النكرات أو بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف أي هي طعام مساكين.
وقوله سحبانه: {أَو عَدْلُ ذلك صِيَامًا} عطف على {طَعَامٌ} وذلك إشارة إليه و{صِيَامًا} تمييز.
وخلاصة الآية كأنه قيل: فعليه جزاء أو فالواجب جزاء مماثل للمقتول هو من النعم أو طعام مساكين أو صيام بعددهم فحينئذ تكون المماثلة وصفًا لازمًا للجزاء يقدر به الهدي والطعام والصيام.
أما الأولان فبلا واسطة، وأما الثالث: فبواسطة الثاني فيختار الجاني كلًا منها بدلًا عن الآخرين، وكون الاختيار للجاني هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله تعالى عنهما فعندهما إذا ظهر قيمة الصيد بحكم الحكمين وهي تبلغ هديًا فله الخيار في أن يجعله هديًا أو طعامًا أو صومًا لأن التخيير شرع رفقًا بمن عليه فيكون الخيار إليه ليرتفق بما يختار كما في كفارة اليمين.
وقال محمد وحكاه أصحابنا عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أيضًا إن الخيار إلى الحكمين في تعيين أحد الأشياء فإن حكما بالهدي يجب النظير على ما مر وإن حكما بالطعام أو الصيام فعلى ما قاله الإمام وصاحبه من اعتبار القيمة من حيث المعنى.
واستدل كما قيل على ذلك بالآية، ووجهه أنه ذكر الهدي منصوبًا على أنه تفسير للضمير المبهم العائد على {مَثَلُ} في قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ} سواء كان حالًا منه كما قدمنا أو تمييزًا على ما قيل فيثبت أن المثل إنما يصير هديًا باختيارهما وحكمهما أو هو مفعول لحكم الحاكم على أن يكون بدلًا عن الضمير محمولًا على محله كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا} [الأنعام: 161] وفي ذلك تنصيص على أن التعيين إلى الحكمين ثم لما ثبت ذلك في الهدي ثبت في الطعام والصيام لعدم القائل بالفصل لأنه سبحانه عطفهما عليه بكلمة «أو» وهي عند غير الشعبي والسدي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم في رواية للتخيير فيكون الخيار إليهما.
وأجاب عن ذلك غير واحد من أصحابنا بأن الاستدلال إنما يصح لو كان كفارة معطوفة على {هَدْيًا} وليس كذلك لاختلاف إعرابهما وإنما هي معطوفة على قوله تعالى: {فَجَزَاء} بدليل أنه مرفوع وكذا قوله: {أَو عَدْلُ} الخ فلم يكن في الآية دلالة على اختيار للحكمين في الطعام والصيام وإذا لم يثبت الخيار فيهما للحكمين لم يثبت في الهدي لعدم القائل بالفصل وإنما يرجع إليهما في «تقديم» المتلف لا غير، ثم الاختيار بعد ذلك إلى من عليه رفقًا به على أن في توجيه الاستدلال على ما قاله أكمل الدين في «العناية» إشكالًا لأن ذكر الطعام والصيام بكلمة «أو» لا يفيد المطلوب إلا إذا كان {كفارة} منصوبًا على ما هو قراءة عيسى بن عمر النحوي وهي شاذة، والشافعي لا يرى الاستدلال بالقراءة الشاذة لا من حيث إنها كتاب ولا من حيث إنها خبر كما عرف في الأصول.
واعترض مولانا شيخ الإسلام على عطف {كَفَّارَةُ} على {جزاء} وقد ذهب إليه أجلة المفسرين والفقهاء بأنه لا يبقى حينئذ في النظم الكريم ما يقدر به الطعام والصيام، والالتجاء إلى القياس على الهدي تعسف لا يخفى وقد علمت ما اختاره.
والآية عليه أيضًا لا تصلح دليلًا على مدعى الخصم كما هو ظاهر على أن الظاهر منها كما قاله ابن الهمام أن الاختيار لمن عليه فإن مرجع ضمير المحذوف من الخبر أو متعلق المبتدأ إليه بناء على أن التقدير فعليه أو فالواجب عليه، «ثم إذا وقع الاختيار على الهدي يهدي ما يجزيه في الأضحية وهو الجذع الكبير من الضأن أو الثني من غيره عند أبي حنيفة لأن مطلق اسم الهدي ينصرف إليه» كما في هدي المتعة والقران.
واعترض عليه بأن اسم الهدي قد ينصرف إلى غيره كما إذا قال: إذا فعلت كذا فثوبي هذا هدي فليكن في محل النزاع كذلك.
وأجيب بأن الكلام في مطلق الهدي وما ذكر ليس كذلك لأن الإشارة إلى الثوب قيدته، «وعند محمد يجزىء صغار النعم لأن الصحابة كما تقدم أوجبوا عناقًا وجفرة» فدل على جواز ذلك في باب الهدي، وعن أبي يوسف روايتان رواية كقول الإمام، وأخرى كقول محمد وهي التي في «المبسوط» و«الأسرار» وغيرهما، «وعند أبي حنيفة يجوز الصغار على وجه الإطعام» فيجوز أن يكون حكم الصحابة رضي الله تعالى عنهم كان على هذا الاعتبار فمجرد فعلهم حينئذ لا ينافي ما ذهب إليه الإمام فلا ينتهض حجة عليهم.
وإذا اختار الهدي وبلغ ما يضحي به فلا يذبح إلا بالحرم وهو المراد بقوله تعالى: {هَدْيًا بالغ الكعبة} إلا أن ذكر الكعبة للتعظيم.
ولو ذبحه في الحل لا يجزيه عن الهدي بل عن الإطعام فيشترط أن يعطي كل مسكين قيمة نصف صاع حنطة أو صاع من غيرها، ويجوز أن يتصدق بالشاة الواقعة هديًا على مسكين واحد كما في هدي المتعة ولا يتصدق بشيء من الجزاء على من لا تقبل شهادته له، ويجوز على أهل الذمة والمسلم أحب.
ولو أكل من الجزاء غرم قيمة ما أكل، ولا يشترط في الإطعام أن يكون في الحرم.
«ونقلوا عن الشافعي أنه يشترط ذلك اعتبارًا له بالهدي والجامع التوسعة على سكان الحرم، ونحن نقول: الهدي قربة غير معقولة فيختص بمكان أو زمان أما الصدقة فقربة معقولة في كل زمان ومكان كالصوم فإنه يجوز في غير الحرم بالإجماع فإن ذبح في الكوفة مثلًا أجزأه عن الطعام إذا تصدق باللحم، وفيه وفاء بقيمة الطعام لأن الإراقة لا تنوب عنه»، ولو سرق هذا المذبوح أو ضاع قبل التصدق به بقي الواجب عليه كما كان وهذا بخلاف ما لو كان الذبح في الحرم حيث يخرج عن العهدة.
وإن سرق المذبوح أو ضاع قبل التصدق به وإذا وقع الاختيار على الطعام يقوم المتلف بالقيمة ثم يشتري بالقيمة طعام ويتصدق به على ما أشرنا إليه أولًا.
وفي «الهداية»: يقوم المتلف بالطعام عندنا لأنه المضمون فتعتبر قيمته.
ونقل حميد الدين الضرير عن محمد أنه يقوم النظير لأنه الواجب عينًا إذا كان للمقتول نظير، وأنت تعلم أنه لو سلم أن النظير هو الواجب عينًا عند اختيار الهدي لم يلزم منه وجوب تقديمه عند اختيار خصلة أخرى فكيف وهو ممنوع، وإن اختار الصيام فعلى ما في «الهداية» يقوم المقتول طعامًا ثم يصوم عن طعام كل مسكين يومًا على ما مر لأن تقدير الصيام بالمقتول غير ممكن إذ لا قيمة للصيام فقدرناه بالطعام، والتقدير على هذا الوجه معهود في الشرع كما في الفدية وتمام البحث في الفروع.
والكفارة والطعام في الآية على ما يشعر به كلام بعض المفسرين بالمعنى المصدري ولو أبقيا على الظاهر لصح هذا، وما ذكرنا من عطف {كَفَّارَةُ} إنما هو على قراءة {جزاء} بالرفع وعلى سائر القراءات يكون خبر مبتدأ محذوف والجملة معطوفة على جملة {مِنَ النعم}.
وذكر الشهاب أنه يجوز في {كَفَّارَةُ} على قراءة {جزاء} بالنصب أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي الواجب عليه كفارة وأن يقدر هناك فعل أي أن يجزىء جزاء فيكون {أَوْ كَفَّارَةٌ} عطفًا على أن يجزىء وهو مبتدأ مقدم عليه خبره.
وقرئ {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مساكين} على الإضافة لتبيين نوع الكفارة بناء على أنها بمعنى المكفر به وهي عامة تشمل الطعام وغيره، وكذا الطعام يكون كفارة وغيرها فبين المتضايفين عموم وخصوص من وجه كخاتم حديد.
وقال أبو حيان: إن الطعام ليس جنسًا للكفارة إلا بتجوز بعيد جدًا فالإضافة إنما هي إضافة الملابسة وليس بشيء.
وقرأ الأعرج {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مساكين} على أن التبيين يحصل بالواحد الدال على الجنس.
وقرئ {أَو عَدْلُ} بكسر العين، والفرق بينهما أن عدل الشيء كما قال الفراء ما عادله من غير جنسه كالصوم والإطعام وعدله ما عدل به في المقدار كأن المفتوح تسمية بالمصدر والمكسور بمعنى المفعول، وقال البصريون: العدل والعدل كلاهما بمعنى المثل سواء كان من الجنس أو من غيره.
وقال الراغب: العدل والعدل متقاربان لكنه بالفتح فيما يدرك بالبصيرة كالأحكام وبالكسر فيما يدرك بالحواس كالعديل فالعدل بالفتح هو التقسيط على سواء.
وعلى هذا روي بالعدل قامت السموات تنبيهًا على أنه لو كان ركن من الأركان الأربعة في العالم زائدًا على الآخر أو ناقصًا عنه على خلاف مقتضى الحكمة لم يكن العالم منتظمًا.
{لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} متعلق بالاستقرار الذي تعلق به المقدر، وقيل: بجزاء، وقيل: بصيام أو بطعام، وقيل: بفعل مقدر وهو جوزي أو شرعنا ذلك ونحوه، والوبال في الأصل الثقل ومنه الوابل للمطر الكثير والوبيل للطعام الثقيل الذي لا يسرع هضمه والمرعى الوخيم ولخشبة القصار وضمير {أَمَرَهُ} إما لله تعالى أو لمن قتل الصيد أي ليذوق ثقل فعله وسوء عاقبة هتك حرمة ما هو فيه أو الثقل الشديد على مخالفة أمر الله تعالى القوي، وعلى هذا لابد من تقدير مضاف كما أشرنا إليه لأن أمر الله تعالى لا وبال فيه وإنما الوبال في مخالفته.
{عَفَا الله عَمَّا سَلَف} لكم من الصيد وأنتم محرمون فلم يجعل فيه إثمًا ولم يوجب فيه جزاء أو لم يؤاخذكم على ما كان منكم في الجاهلية من ذلك مع أنه ذنب عظيم أيضًا حيث كنتم على شريعة إسماعيل عليه السلام والصيد محرم فيها، وقد مر رواية التحريم جاهلية والمؤاخذة على قتل الصيد بالضرب الوجيع.